[center]في حكم صيام شهر الله المحرم
هل يُشرَعُ صيامُ شهرِ مُحرَّمٍ كُلِّه؟
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فَقَبْلَ الجوابِ على سؤالكم فينبغي التنبيهُ على خطأ شائعٍ في إطلاق لفظ «محرم» مجرّدًا عن الألف واللاَّم؛ ذلك لأنّ الصواب إطلاقه معرَّفًا، بأن يقال: «المحرَّم»، لورود الأحاديث النبوية بها معرَّفة؛ ولأنَّ العرب لم تذكر هذا الشهر في مقالهم وأشعارهم إلاّ معرَّفًا بالألف واللام، دون بقية الشهور، فإطلاق تسميته إذًا سماعي وليس قياسيًا.
هذا، وشهر المحرّم محلُّ للصيام لذلك يستحبُّ الإكثار من الصيام فيه، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمِ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةِ صَلاَةُُ اللَّيْلِ»(١).
ويتأكّد استحباب صوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرّم، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاء، وَلَمْ يَكْتُبِ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ»(٢)، وصيام عاشوراء يكفِّر السنة الماضية، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاء، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»(٣)، ويستحب أن يتقدّمه بصوم يوم قبله وهو التاسع من المحرّم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «حين صامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يومَ عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يومٌ تُعظِّمه اليهودُ والنصارى، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «فَإِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- صُمْنَا اليَوْمَ التَّاسِعَ»، قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم»(٤)، وفي روايةٍ: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»(٥)، كما يستحبُّ له أن يصوم يومًا بعده وهو اليوم الحادي عشر، لما رُوِيَ موقوفًا صحيحًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: «صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاء، وَخَالِفُوا اليَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا»(٦)، قال الحافظ –رحمه الله-: «..صيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر»(٧).
وجديرٌ بالتنبيه أنَّ شهرَ اللهِ المحرَّم يجوز الصيامُ فيه من غير تخصيص صوم يوم آخرِ العام بنية توديع السَّنَةِ الهجرية القمرية، ولا أول يوم من المحرم بنية افتتاح العام الجديد بالصيام باستثناء ما ذُكِرَ من تخصيص عاشوراء ويومي المخالفة فيهما لليهود، ومن خصّص آخر العام وأوَّلَ العام الجديد بالصيام إنما استند على حديثٍ موضوع: «مَنْ صَامَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ ذِي الحِجَّةِ وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ المُحَرَّمِ، خَتَمَ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَافْتَتَحَ السَّنَةَ المُسْتَقْبلَةَبِصَوْمٍ جَعَلَ اللهُ لَهُ كَفَّارَةَ خَمْسِينَ سَنَةً»(٨)، وهو حديث مكذوبٌ ومُختلَقٌ على النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، قال أبو شامة: «ولم يأت شيءٌ في أول ليلة المحرم، وقد فَتَّشْتُ فيما نقل من الآثار صحيحًا وضعيفًا، وفي الأحاديث الموضوعة فلم أر أحدًا ذكر فيها شيئًا، وإني لأتخوّف -والعياذ بالله- من مفترٍ يختلق فيها حديثًا»(٩).
فلا يشرع -إذن- في شهر المحرم ولا في عاشوراء شيء إلاّ الصيام، أمّا أداء عمرة أول المحرم أو التزام ذكرٍ خاصٍّ أو دعاء، أو إحياء ليلة عاشوراء بالتعبّد والذِّكر والدعاء فلم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن التابعين الكرام، قال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(١٠).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
١- أخرجه مسلم في «الصيام»، باب فضل صوم المحرَّم: (2755)، وأبو داود في «الصوم»، باب في صوم المحرم: (2429)، والترمذي في «الصلاة»، باب ما جاء في فضل صلاة الليل: (438)، والنسائي في «قيام الليل وتطوع النهار»، باب فضل صلاة الليل: (1613)، وأحمد في «مسنده»: (8329)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٢- أخرجه البخاري في «الصوم»، باب صيام يوم عاشوراء: (1899)، ومسلم في «الصوم»، باب صوم يوم عاشوراء: (2653)، ومالك في «الموطإ»: (663)، وأحمد في «مسنده»: (16425)، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
٣- أخرجه مسلم في «الصيام»، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر...: (2746)، وأبو داود في «الصيام»، باب في صوم الدهر تطوعًا: (2425)، وابن ماجه في «الصيام»، باب صيام يوم عاشوراء: (1738)، وأحمد في «مسنده»: (23290) من حديث أبي قتادة الأنصاري.
٤- أخرجه مسلم في «الصيام»، باب أي يوم يصام في عاشوراء: (2666)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
٥- أخرجه مسلم في «الصيام»، باب أي يوم يصام في عاشوراء: (2667)، وابن ماجه في «الصيام»، باب صيام يوم عاشوراء: (1736)، وأحمد في «مسنده»: (3203)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
٦- أخرجه مرفوعًا: ابن خزيمة في «صحيحه»: (2095)، وأحمد في «مسنده»: (2155)، قال الألباني في «صحيح ابن خزيمة» (3/290): «إسناده ضعيف لسوء حفظ ابن أبي ليلى وخالفه عطاء وغيره فرواه عن ابن عباس موقوفًا وسنده صحيح عند الطحاوي والبيهقي».
وأخرجه موقوفًا: الطبري في «تهذيب الآثار»: (مسند عمر /1430)، والأثر صحَّحه الألباني كما سبق، وزكريا بن غلام قادر الباكستاني في «ما صحَّ من آثار الصحابة في الفقه»: (2/675).
٧- «فتح الباري» لابن حجر: (4/246).
٨- حكم عليه بالوضع: ابن الجوزي في «الموضوعات»: (2/199)، والسيوطي في «اللآلئ»: (2/108)، والشوكاني في «الفوائد» (ص:96).
٩- «الباعث على إنكار البدع والحوادث»: (239).
١٠- أخرجه بهذا اللّفظ مسلم في «الأقضية»، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور: (4590)، واتّفق الشيخان: البخاري في «الصلح»: (2697)، ومسلم في «الأقضية»: (4589) على إخراجه بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدُّ» من حديث عائشة رضي الله عنها وعند البخاري: «ما ليس فيه...».