بسم الله الرحمن الرحيم
فخر الدين باشا والدفاع عن المدينة المنورة
أ. أورخان محمد علي رحمه الله
كانت ملحمة رائعة قل نظيرها في التاريخ.. ملحمة إنسانية رسمت فيها
أسمى العواطف الإنسانية لوحة رائعة ستبقى خالدة على مر التاريخ
ولن يطويها النسيان..
وملحمة عسكرية تحدت أصعب الظروف وأقسى الشروط.
بطل هذه الملحمة هو القائد التركي
اللواء فخر الدين باشا
الملقب بـ(نمر الصحراء)،
ومن قِبَلِ الإنجليز بـ(النمر التركي).
كان قائد الفيلق في الجيش العثماني الرابع في الموصل برتبة عميد
عندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى في 1914م، ثم رقي إلى رتبة لواء،
واستدعي عام 1916م إلى الحجاز للدفاع عن المدينة المنورة
عندما بدت تلوح في الأفق نذر نجاح الإنجليز في إثارة حركة مسلحة
ضد الدولة العثمانية.
وصل إلى المدينة المنورة في 31/5/1916م فرحًا؛
لأنه كان يحب رسول الله حبًّا لا يوصف؛ حيث رسم هذا الحب
لوحة الملحمة الإنسانية التي بقيت خالدة في التاريخ العثماني.
منذ اليوم الأول من وصوله للمدينة حتى فراقه لها،
أي أكثر من عامين، لم يشبع من الصلاة في مسجد رسول الله
وزيارة ضريحه الطاهر،
هكذا في كل صباح وفي كل يوم لم يفت يوم واحد دون قيامه بهذا.
انسحبت الجيوش العثمانية من الحجاز بعد سقوط الحجاز بيد الثوار،
ولم تبق هناك سوى حامية فخر الدين باشا التي كانت تبلغ 15 ألفًا
من الجنود مع بضعة مدافع..
بقي فخر الدين باشا وحده وسط بحر من الصحراء ومن الأعداء..
أصبح أقرب جيش عثماني يبعد عنه 1300 كم..
انقطعت عنه جميع الإمدادات، ومما زاد في عزلته
قيام لورنس -الجاسوس الإنجليزي- وأعوانه من بدو بعض القبائل
بنسف سكة حديد الحجاز في عدة مواضع، وبنسف أعمدة التلغراف..
فأصبح معزولاً عن العالم وحيدًا ومحاصرًا من قبل أعداء يفوق عددهم
عدد جنوده أضعافًا مضاعفة، ويقومون بالهجوم على المدينة
ويطلبون منه الاستسلام؛ ولكنه كان يردهم على أعقابهم كل مرة.
كانت أمور الدولة العثمانية تسوء يومًا بعد يوم، وتتراجع جيوشها أمام
قوات الحلفاء في معظم جبهات القتال .
لذا اتخذت الحكومة العثمانية (وعلى رأسها أنور باشا) قرارًا بتخلية المدينة المنورة.
وأبلغوا فخر الدين باشا بهذا القرار، وقد شعر بأن خنجرًا يغرس في قلبه،
ولهذا أرسل رسالة إلى أنور باشا يتوسل فيها ويقول:
[ لماذا نخلي المدينة؟ أمن أجل أنهم فجّروا خط الحجاز؟
ألا تستطيعون إمدادي بفوج واحد فقط مع بطارية مدفعية؟
أمهلوني مدة فقد أستطيع التفاهم مع القبائل العربية ].
توسل توسلاً حارًّا، ناسيًا غروره وكبرياءه كقائد عثماني مرموق..
رضي أنور باشا أمام هذا الإلحاح بل التوسل الحزين،
ولكنه لم يستطع إرسال أي مدد إليه.
ولكن الأحوال العسكرية ساءت جدًّا في تلك المنطقة.
فقد هزم الجيش العثماني في حروبه مع القوات الإنجليزية –
التي كانت تفوقه في العدد والعدة وفي حسن التموين-
في القناة وفي جبهة فلسطين، واضطر للانسحاب.
وفي الشهر العاشر من عام 1918م وقعت الدولة العثمانية معاهدة موندروس..
وكانت معاهدة استسلام قاسية جدًّا.
انتهت الحرب..
وصدرت إليه الأوامر من قبل الحكومة العثمانية بالانسحاب من المدينة
وتسليمها إلى قوات الحلفاء..
ولكنه رفض تنفيذ أوامر قيادته وأوامر حكومته.. أي أصبح عاصيًا لها..
كانت الفقرة رقم 16 من معاهدة موندروس الاستسلاميَّة تنص صراحة
على وجوب قيام جميع الوحدات العثمانية العسكرية الموجودة في الحجاز
وسوريا واليمن والعراق بالاستسلام لأقرب قائد من قواد الحلفاء.
واتصل به الإنجليز باللاسلكي من بارجة حربية في البحر الأحمر
يخبرونه بضرورة الاستسلام بعد أن انتهت الحرب .
و أنه تم التوقيع على معاهدة الاستسلام، فكان جوابه الرفض.
كتب إليه الصدر الأعظم أحمد عزت باشا -وهو يبكي-
رسالة يأمره بتسليم المدينة تطبيقًا للمعاهدة،
وأرسل رسالته هذه مع ضابط برتبة نقيب.
ولكن فخر الدين باشا حبس هذا الضابط، وأرسل رسالة إلى الصدر الأعظم قال فيها:
[ إن مدينة رسول الله صلى الله عليو وسلم لا تشبه أي مدينة أخرى؛
لذا فلا تكفي أوامر الصدر الأعظم في هذا الشأن،
بل عليه أن يستلم أمرًا من الخليفة نفسه]
كان في الحقيقة يفتش عن عذر لرفض الانسحاب.. ازدادت الضغوط
على الدولة العثمانية من قبل الحلفاء لتطبيق المعاهدة، وتسليم المدينة إليهم.
لم تر الحكومة العثمانية بدًّا من الرضوخ.. فلم تكن لديهم أي حول أو قوة للرفض.
وهكذا صدر أمر من الخليفة نفسه إلى فخر الدين باشا بتسليم المدينة،
وأرسل الأمر السلطاني بواسطة وزير العدل "حيدر ملا".
سدت جميع الأبواب في وجه فخر الدين باشا.. فقد وصل إليه أمر من
الخليفة نفسه بوجوب الاستسلام.
هل سيترك مدينة حبيبه ويسلمها إلى الأعداء؟
كلا!.. لن يستسلم ولن يقبل تنفيذ أي أمر بهذا الخصوص،
حتى ولو كان الأمر من الخليفة ومن السلطان نفسه.
أرسل الجواب مع وزير العدل. قال في الجواب:
[ إن الخليفة يُعَدُّ الآن أسيرًا في يد الحلفاء؛ لذا فلا توجد له إرادة مستقلة،
فهو يرفض تطبيق أوامره ويرفض الاستسلام].
رفض حتى أوامر الخليفة نفسه!!
وبدأ الطعام يقل في المدينة، كما شحت الأدوية،
وتفشت الأمراض بين جنود الحامية، وكذلك بين أهالي المدينة..
كانوا نقطة في بحر الصحراء محاصرين ومنقطعين عن العالم.
جمع فخر الدين باشا ضباطه للاستشارة حول هذا الظرف العصيب..
كان يريد أن يعرف ماذا يقترحون، ومعرفة مدى إصرارهم
في الاستمرار في الدفاع عن المدينة.
اجتمعوا في الصحن الشريف.. في الروضة المطهرة في صلاة الظهر..
أدى الجميع الصلاة في خشوع يتخلله بكاء صامت ونشيج،
ثم ارتقى فخر الدين باشا المنبر وهو ملتف بالعلم العثماني وخطب
في الضباط خطبة كانت قطرات دموعه أكثر من عدد كلماته..
وبكى الضباط حتى علا نحيبهم، وقال:
[ لن نستسلم أبدًا ولن نسلم مدينة الرسول لا للإنجليز ولا لحلفائهم!! ]
نزل من المنبر فاحتضنه الضباط ضابطًا ضابطًا..
احتضنوه وهم يبكون وهو يبكي..
كانت لوحة مأساوية من أروع لحظات التاريخ ستبقى في سجل التاريخ،
طفح فيه حب رسول الله بشكل قلَّ نظيره،
وثارت فيها العواطف وتأججت وسالت من المآقي الدموع،
وقد كانوا يحسون بأن روح رسول الله تجول بينهم.
اقترب من القائد العثماني أحد سكان المدينة الأصليين واحتضنه
وقبَّله وقال له:
[ أنت مدنيّ من الآن فصاعدًا.. أنت من أهل المدينة يا سيدي القائد!]
لكن الحقيقة المرة كانت ماثلة أمام كل عين.. حقيقة مادية وواقعية لا يمكن تجاهلها..
لم يكن من الممكن الاستمرار في هذا الرفض.. فقد اشتدت وطأة الجوع
والمرض على الجيش العثماني وعلى سكان المدينة،
وقلت الذخيرة الحربية ولم تعد كافية للدفاع عن المدينة.
عندما يئست القوات المحاصرة للمدينة من فخر الدين باشا
زادوا اتصالهم مع ضباطه.. كان الوضع ميئوسًا منه.
كلمه ضباطه شارحين له الوضع المأساوي للحامية ولأهل المدينة،
فوافق أخيرًا على قيام ضباطه بالتفاوض على شروط وبنود الاستسلام.
كان على رأس بنود الاتفاقية بند يقول:
" سيحل فخر الدين باشا ضيفًا على قائد القوات السيارة الهاشمية في ظرف 24 ساعة "
وأنه تم تهيئة خيمة كبيرة لاستراحته.
وفي المدينة كانت ترتيبات الرحيل تجري على قدم وساق،
وكانت سيارة القائد فخر الدين مهيأة وقد نقلت إليها أغراض القائد.
بقي الضباط في انتظار خروجه.. ولكن الساعات مضت ولم يخرج إليهم،
بل جاء أمر منه بتخلية السيارة من أغراضه الشخصية ونقلها
إلى بناية صغيرة ملحقة بالمسجد النبوي..
كان فخر الدين قد هيأ هذا المكان لنفسه.. لم يكن يريد الابتعاد من عند مسجد رسول الله
.
وذهب إليه نائبه نجيب بك ومعه ضباط آخرون فوجدوه متهالكًا
على فراش بسيط في تلك البناية، ولم يرد أن يخرج،
بل قال لهم:
[ اذهبوا أنتم أما أنا فسأبقى هنا ]
احتار نائبه والضباط ولم يدروا كيف يتصرفون، تشاوروا فيما بينهم
ثم قرروا أن يأخذوه قسرًا.. اقتربوا من فراشه وأحاطوا به وحملوه قسرًا
إلى الخيمة المعدة له وهم يبكون.. كانوا يعرفون مدى حب قائدهم للرسول ،
ولماذا يعاند كل هذا العناد رافضًا الابتعاد من عند رسول الله ،
ولكنهم لم يكونوا يستطيعون ترك قائدهم هكذا وحيدًا هناك،
وقد حدث هذا في يوم 10/1/1919م.
في اليوم الثاني اصطف الجنود العثمانيون صفوفًا أمام المسجد النبوي،
وكان كل جندي يدخل ويزور ضريح رسول الله ويبكي ثم يخرج،
وكذلك الضباط، ولم يبق أحد لم يسكب دموعًا حارة في لحظة الوداع
المؤثرة هذه حتى سكان المدينة وقوات البدو بكوا من هذا المنظر.
عندما نقل فخر الدين باشا إلى الخيمة المعدة له كان هناك الآلاف
من قوات البدو يحيطون بالخيمة ويشتاقون إلى رؤية هذا البطل الذي
أصبح أسطورة، وما أن ظهر حتى ارتجت الصحراء بنداء:
(فخر الدين باشا.. فخر الدين باشا!)
لم يكن هناك من لم تبهره بطولته وحبه لرسول الله .
وفي 13/1/1919م دخلت قوات البدو -حسب الاتفاقية- إلى المدينة،
واستسلمت الحامية العثمانية في المدينة المنورة بعد 72 يومًا من
توقيع معاهدة موندروس.
فخر الدين باشا والدفاع عن المدينة المنورة
أ. أورخان محمد علي رحمه الله
كانت ملحمة رائعة قل نظيرها في التاريخ.. ملحمة إنسانية رسمت فيها
أسمى العواطف الإنسانية لوحة رائعة ستبقى خالدة على مر التاريخ
ولن يطويها النسيان..
وملحمة عسكرية تحدت أصعب الظروف وأقسى الشروط.
بطل هذه الملحمة هو القائد التركي
اللواء فخر الدين باشا
الملقب بـ(نمر الصحراء)،
ومن قِبَلِ الإنجليز بـ(النمر التركي).
كان قائد الفيلق في الجيش العثماني الرابع في الموصل برتبة عميد
عندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى في 1914م، ثم رقي إلى رتبة لواء،
واستدعي عام 1916م إلى الحجاز للدفاع عن المدينة المنورة
عندما بدت تلوح في الأفق نذر نجاح الإنجليز في إثارة حركة مسلحة
ضد الدولة العثمانية.
وصل إلى المدينة المنورة في 31/5/1916م فرحًا؛
لأنه كان يحب رسول الله حبًّا لا يوصف؛ حيث رسم هذا الحب
لوحة الملحمة الإنسانية التي بقيت خالدة في التاريخ العثماني.
منذ اليوم الأول من وصوله للمدينة حتى فراقه لها،
أي أكثر من عامين، لم يشبع من الصلاة في مسجد رسول الله
وزيارة ضريحه الطاهر،
هكذا في كل صباح وفي كل يوم لم يفت يوم واحد دون قيامه بهذا.
انسحبت الجيوش العثمانية من الحجاز بعد سقوط الحجاز بيد الثوار،
ولم تبق هناك سوى حامية فخر الدين باشا التي كانت تبلغ 15 ألفًا
من الجنود مع بضعة مدافع..
بقي فخر الدين باشا وحده وسط بحر من الصحراء ومن الأعداء..
أصبح أقرب جيش عثماني يبعد عنه 1300 كم..
انقطعت عنه جميع الإمدادات، ومما زاد في عزلته
قيام لورنس -الجاسوس الإنجليزي- وأعوانه من بدو بعض القبائل
بنسف سكة حديد الحجاز في عدة مواضع، وبنسف أعمدة التلغراف..
فأصبح معزولاً عن العالم وحيدًا ومحاصرًا من قبل أعداء يفوق عددهم
عدد جنوده أضعافًا مضاعفة، ويقومون بالهجوم على المدينة
ويطلبون منه الاستسلام؛ ولكنه كان يردهم على أعقابهم كل مرة.
كانت أمور الدولة العثمانية تسوء يومًا بعد يوم، وتتراجع جيوشها أمام
قوات الحلفاء في معظم جبهات القتال .
لذا اتخذت الحكومة العثمانية (وعلى رأسها أنور باشا) قرارًا بتخلية المدينة المنورة.
وأبلغوا فخر الدين باشا بهذا القرار، وقد شعر بأن خنجرًا يغرس في قلبه،
ولهذا أرسل رسالة إلى أنور باشا يتوسل فيها ويقول:
[ لماذا نخلي المدينة؟ أمن أجل أنهم فجّروا خط الحجاز؟
ألا تستطيعون إمدادي بفوج واحد فقط مع بطارية مدفعية؟
أمهلوني مدة فقد أستطيع التفاهم مع القبائل العربية ].
توسل توسلاً حارًّا، ناسيًا غروره وكبرياءه كقائد عثماني مرموق..
رضي أنور باشا أمام هذا الإلحاح بل التوسل الحزين،
ولكنه لم يستطع إرسال أي مدد إليه.
ولكن الأحوال العسكرية ساءت جدًّا في تلك المنطقة.
فقد هزم الجيش العثماني في حروبه مع القوات الإنجليزية –
التي كانت تفوقه في العدد والعدة وفي حسن التموين-
في القناة وفي جبهة فلسطين، واضطر للانسحاب.
وفي الشهر العاشر من عام 1918م وقعت الدولة العثمانية معاهدة موندروس..
وكانت معاهدة استسلام قاسية جدًّا.
انتهت الحرب..
وصدرت إليه الأوامر من قبل الحكومة العثمانية بالانسحاب من المدينة
وتسليمها إلى قوات الحلفاء..
ولكنه رفض تنفيذ أوامر قيادته وأوامر حكومته.. أي أصبح عاصيًا لها..
كانت الفقرة رقم 16 من معاهدة موندروس الاستسلاميَّة تنص صراحة
على وجوب قيام جميع الوحدات العثمانية العسكرية الموجودة في الحجاز
وسوريا واليمن والعراق بالاستسلام لأقرب قائد من قواد الحلفاء.
واتصل به الإنجليز باللاسلكي من بارجة حربية في البحر الأحمر
يخبرونه بضرورة الاستسلام بعد أن انتهت الحرب .
و أنه تم التوقيع على معاهدة الاستسلام، فكان جوابه الرفض.
كتب إليه الصدر الأعظم أحمد عزت باشا -وهو يبكي-
رسالة يأمره بتسليم المدينة تطبيقًا للمعاهدة،
وأرسل رسالته هذه مع ضابط برتبة نقيب.
ولكن فخر الدين باشا حبس هذا الضابط، وأرسل رسالة إلى الصدر الأعظم قال فيها:
[ إن مدينة رسول الله صلى الله عليو وسلم لا تشبه أي مدينة أخرى؛
لذا فلا تكفي أوامر الصدر الأعظم في هذا الشأن،
بل عليه أن يستلم أمرًا من الخليفة نفسه]
كان في الحقيقة يفتش عن عذر لرفض الانسحاب.. ازدادت الضغوط
على الدولة العثمانية من قبل الحلفاء لتطبيق المعاهدة، وتسليم المدينة إليهم.
لم تر الحكومة العثمانية بدًّا من الرضوخ.. فلم تكن لديهم أي حول أو قوة للرفض.
وهكذا صدر أمر من الخليفة نفسه إلى فخر الدين باشا بتسليم المدينة،
وأرسل الأمر السلطاني بواسطة وزير العدل "حيدر ملا".
سدت جميع الأبواب في وجه فخر الدين باشا.. فقد وصل إليه أمر من
الخليفة نفسه بوجوب الاستسلام.
هل سيترك مدينة حبيبه ويسلمها إلى الأعداء؟
كلا!.. لن يستسلم ولن يقبل تنفيذ أي أمر بهذا الخصوص،
حتى ولو كان الأمر من الخليفة ومن السلطان نفسه.
أرسل الجواب مع وزير العدل. قال في الجواب:
[ إن الخليفة يُعَدُّ الآن أسيرًا في يد الحلفاء؛ لذا فلا توجد له إرادة مستقلة،
فهو يرفض تطبيق أوامره ويرفض الاستسلام].
رفض حتى أوامر الخليفة نفسه!!
وبدأ الطعام يقل في المدينة، كما شحت الأدوية،
وتفشت الأمراض بين جنود الحامية، وكذلك بين أهالي المدينة..
كانوا نقطة في بحر الصحراء محاصرين ومنقطعين عن العالم.
جمع فخر الدين باشا ضباطه للاستشارة حول هذا الظرف العصيب..
كان يريد أن يعرف ماذا يقترحون، ومعرفة مدى إصرارهم
في الاستمرار في الدفاع عن المدينة.
اجتمعوا في الصحن الشريف.. في الروضة المطهرة في صلاة الظهر..
أدى الجميع الصلاة في خشوع يتخلله بكاء صامت ونشيج،
ثم ارتقى فخر الدين باشا المنبر وهو ملتف بالعلم العثماني وخطب
في الضباط خطبة كانت قطرات دموعه أكثر من عدد كلماته..
وبكى الضباط حتى علا نحيبهم، وقال:
[ لن نستسلم أبدًا ولن نسلم مدينة الرسول لا للإنجليز ولا لحلفائهم!! ]
نزل من المنبر فاحتضنه الضباط ضابطًا ضابطًا..
احتضنوه وهم يبكون وهو يبكي..
كانت لوحة مأساوية من أروع لحظات التاريخ ستبقى في سجل التاريخ،
طفح فيه حب رسول الله بشكل قلَّ نظيره،
وثارت فيها العواطف وتأججت وسالت من المآقي الدموع،
وقد كانوا يحسون بأن روح رسول الله تجول بينهم.
اقترب من القائد العثماني أحد سكان المدينة الأصليين واحتضنه
وقبَّله وقال له:
[ أنت مدنيّ من الآن فصاعدًا.. أنت من أهل المدينة يا سيدي القائد!]
لكن الحقيقة المرة كانت ماثلة أمام كل عين.. حقيقة مادية وواقعية لا يمكن تجاهلها..
لم يكن من الممكن الاستمرار في هذا الرفض.. فقد اشتدت وطأة الجوع
والمرض على الجيش العثماني وعلى سكان المدينة،
وقلت الذخيرة الحربية ولم تعد كافية للدفاع عن المدينة.
عندما يئست القوات المحاصرة للمدينة من فخر الدين باشا
زادوا اتصالهم مع ضباطه.. كان الوضع ميئوسًا منه.
كلمه ضباطه شارحين له الوضع المأساوي للحامية ولأهل المدينة،
فوافق أخيرًا على قيام ضباطه بالتفاوض على شروط وبنود الاستسلام.
كان على رأس بنود الاتفاقية بند يقول:
" سيحل فخر الدين باشا ضيفًا على قائد القوات السيارة الهاشمية في ظرف 24 ساعة "
وأنه تم تهيئة خيمة كبيرة لاستراحته.
وفي المدينة كانت ترتيبات الرحيل تجري على قدم وساق،
وكانت سيارة القائد فخر الدين مهيأة وقد نقلت إليها أغراض القائد.
بقي الضباط في انتظار خروجه.. ولكن الساعات مضت ولم يخرج إليهم،
بل جاء أمر منه بتخلية السيارة من أغراضه الشخصية ونقلها
إلى بناية صغيرة ملحقة بالمسجد النبوي..
كان فخر الدين قد هيأ هذا المكان لنفسه.. لم يكن يريد الابتعاد من عند مسجد رسول الله
.
وذهب إليه نائبه نجيب بك ومعه ضباط آخرون فوجدوه متهالكًا
على فراش بسيط في تلك البناية، ولم يرد أن يخرج،
بل قال لهم:
[ اذهبوا أنتم أما أنا فسأبقى هنا ]
احتار نائبه والضباط ولم يدروا كيف يتصرفون، تشاوروا فيما بينهم
ثم قرروا أن يأخذوه قسرًا.. اقتربوا من فراشه وأحاطوا به وحملوه قسرًا
إلى الخيمة المعدة له وهم يبكون.. كانوا يعرفون مدى حب قائدهم للرسول ،
ولماذا يعاند كل هذا العناد رافضًا الابتعاد من عند رسول الله ،
ولكنهم لم يكونوا يستطيعون ترك قائدهم هكذا وحيدًا هناك،
وقد حدث هذا في يوم 10/1/1919م.
في اليوم الثاني اصطف الجنود العثمانيون صفوفًا أمام المسجد النبوي،
وكان كل جندي يدخل ويزور ضريح رسول الله ويبكي ثم يخرج،
وكذلك الضباط، ولم يبق أحد لم يسكب دموعًا حارة في لحظة الوداع
المؤثرة هذه حتى سكان المدينة وقوات البدو بكوا من هذا المنظر.
عندما نقل فخر الدين باشا إلى الخيمة المعدة له كان هناك الآلاف
من قوات البدو يحيطون بالخيمة ويشتاقون إلى رؤية هذا البطل الذي
أصبح أسطورة، وما أن ظهر حتى ارتجت الصحراء بنداء:
(فخر الدين باشا.. فخر الدين باشا!)
لم يكن هناك من لم تبهره بطولته وحبه لرسول الله .
وفي 13/1/1919م دخلت قوات البدو -حسب الاتفاقية- إلى المدينة،
واستسلمت الحامية العثمانية في المدينة المنورة بعد 72 يومًا من
توقيع معاهدة موندروس.