بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له رب العالمين وإله المرسلين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم وبعد : أما بعد:
إن قلوب البشر طُرا، كغيرها من الكائنات الحية، التي لا غنى لها عن أي مادة من المواد التي بها قوام الحياة والنماء، ويتفق العقلاء جميعا، أن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد، وأنها تظمأ كما يظمأ الزرع، وتجف كما يجف الضرع؛ ولذا.
0فهي تحتاج إلى تجلية وري، يزيلان عنها الأصداء والظمأ، والمرء في هذه الحياة، محاط بالأعداء من كل جانب؛ نفسه الأمارة بالسوء، تورده موارد الهلكة، وكذا هواه وشيطانه.
فهو بحاجة ماسة، إلى ما يحرزه ويؤمنه، ويسكن مخاوفه، ويطمئن قلبه. وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء، ويحرز من الأعداء، ذكر الله والإكثار منه لخالقها ومعبودها؛ فهو جلاء القلوب وصقالها، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها.
قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون السمك إذا فارق الماء؟
عباد الله:
العلاقة بين العبد وبين ربه ليست محصورة في ساعة مناجاة في الصباح، أو في المساء فحسب، ثم ينطلق المرء بعدها، في أرجاء الدنيا غافلا لاهيا، يفعل ما يريد دون قيد ولا محكم؛ كلا هذا تدين مغشوش، العلاقة الحقة، أن يذكر المرء ربه حيثما كان، وأن يكون هذا الذكر مقيدا مسالكه بالأوامر والنواهي، ومبشرًا الإنسان بضعفه البشري، ومعينا له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه.
لقد حث الدين الحنيف، على أن يتصل المسلم بربه، ليحيا ضميره، وتزكوا نفسه، ويطهر قلبه، ويستمد منه العون والتوفيق؛ ولأجل هذا، جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المطهرة، ما يدعوا إلى الإكثار من ذكر الله عز وجل على كل حال؛ فقال عز وجل: يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرة وأصيلًا [سورة الأحزاب:41-42].
وقال سبحانه: والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا ًعظيمًا [سورة الأحزاب:35]. وقال جل شأنه: واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون [سورة الأنفال:45]. وقال تعالى: فاذكروني أذكركم [سورة البقرة:152]. وقال سبحانه: ولذكر الله أكبر [سورة العنكبوت:45].
وقال: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) متفق عليه.
وقال: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وذلك ما هو يا رسول الله، قال:. ذكر الله عز وجل)) رواه أحمد.
وقال: ((من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة)) رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه.
عباد الله:
ذكر الله تعالى، منزلة من منازل هذه الدار، يتزود منها الأتقياء، ويتجرون فيها، وإليها دائما يترددون، الذكر قوت القلوب الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا، وعمارة الديار التي إذا تعطلت عنه صارت دورا بورا، وهو السلاح الذي يقاتل به قطاع الطريق، والماء الذي يطفأ به لهب الحريق.
بالذكر أيها المسلمون، تُستدفع الآفات، وتستكشف الكربات، وتهون به على المصاب الملمات، زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين.
فاللسان الغافل، كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء.
الذاكر الله، لا تدنيه مشاعر الرغبة والرهبة من غير الله، ولا تقلقه أعداد القلة والكثرة، وتستوي عنده الخلوة والجلوة، ولا تستخفه مآرب الحياة ودروبها.
ذكر الله عز وجل، باب مفتوح بين العبد وبين ربه، ما لم يغلقه العبد بغفلته.
قال الحسن البصري رحمه الله: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق.
إن الذنوب كبائرها وصغائرها لا يمكن أن يرتكبها بنو آدم، إلا في حال الغفلة والنسيان لذكر الله عز وجل؛ لأن ذكر الله تعالى، سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في أتون الجحيم، أو غضب وسخط الرب العظيم، وعلى الضد من ذلك، التارك للذكر، والناسي له، فهو ميت، لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء.
قال تعالى: ومن يعْشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين [سورة الزخرف:36]. وقال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى [سورة طه:124].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس.
وكان رجل رديف النبي على دابة، فعثرت الدابة بهما، فقال الرجل: تعس الشيطان؛ فقال له النبي: ((لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون مثل البيت، ولكن قل: بسم الله. فإنه يصغر عند ذلك حتى يكون مثل الذباب)) رواه أحمد وأبو داود وهو صحيح.
وحكى ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف، أنهم قالوا: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي، كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين، فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي.
الإكثار من ذكر الله، براءة من النفاق، وفكاك من أسر الهوى، وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه، وما أعده له من النعيم المقيم، بل هو سلاح مقدم، من أسلحة الحروب الحسية التي لا تثلم، فقد ثبت عن النبي في فتح القسطنطينية: ((فإذا جاءها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر؛ فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا.. الحديث)) رواه مسلم في صحيحه.
يتبع