[size=21]اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار[والآيات ، وهو واضح بنور البصيرة عند من انفتحت بصيرته وشرح الله بنور الإيمان صدره حتى اقتدرت على أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل مستغنيا عن قائد يقوده في كل خطوة. فالسالك إما أعمى لا يستغني عن القائد في خطوه ، وإما بصير يهدي إلى أول الطريق ثم يهتدي بنفسه ، وكذلك الناس في طريق الدين ينقسمون هذا الانقسام ، فمن قاصر لا يقدر على مجاوزة التقليد في خطوه فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم نصا من كتاب الله أو سنة رسوله ، وربما يعوزه ذلك فيتحير ، فسير هذا - وإن طال عمره وعظم جده - مختصر وخطاه قاصرة. ومن سعيد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، فيتنبه بأدنى إشارة لسلوك طريق معوصة وقطع عقبات متعبة ويشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان ، وهو لشدة نور باطنه يجتزيء بأدنى بيان ، فكأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار ، فإذا مسته نار فهو نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ، وهذا لا يحتاج إلى نص منقول في كل واقعة ، فمن هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولا بنور البصيرة إلى التوبة ما هي ، ثم إلى الوجوب ما معناه ، ثم يجمع بين معنى الوجوب والتوبة فلا يشك في ثبوته لها ، وذلك بأن يعلم بأن معنى الواجب ما هو واجب في الوصول إلى سعادة الأبد ، والنجاة من هلاك الأبد فإنه لولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشيء وتركه لم يكن لوصفه بكونه واجبا معنى. وقول القائل: صار واجبا بالإيجاب ، حديث محض ، فإن مالا غرض لنا آجلا وعاجلا في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به ، أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه ، فإذا عرف معنى الوجوب ، وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد ، وعلم أن لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى ، وأن كل محجوب عنه يشقى لا محاله محول بينه وبين ما يشتهي ، محترق بنار الفراق ونار الجحيم ، وعلم أنه لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات ، والأنس بهذا العالم الفاني ، والإكباب على حب ما لا بد من فراقه قطعا ، وعلم أنه لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم ، والإقبال بالكلية على الله طلبا للأنس به بدوام ذكره ، وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته ، وعلم أن الذنوب التي هي إعراض عن الله واتباع لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله تعالى فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب ، وإنما يتم الانصراف بالعلم والندم والعزم ، فإنه ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في طريق البعد ، وما لم يتوجع فلا يرجع ومعنى الرجوع الترك والعزم فلا يشك في أن المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول إلى المحبوب وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة ، وأما من لم يترشح لمثل هذا المقام المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق ، ففي التقليد والاتباع له مجال رحب يتوصل به إلى النجاة من الهلاك ،
يتبع
[/size]