بسم الله الرحمن الرحيم
التكافل الرمضاني على الطريقة المصرية
تتعدد مظاهر التكافل الاجتماعي التي يزخر بها المجتمع المصري، سواء ما يأخذ منها شكلا ظاهرًا، كإقامة ثلاجات المياه في الشوارع والميادين، أو ما هو مستتر - في صورة عينية أو مادية - كتبرعات للمساجد والجمعيات الخيرية للإنفاق منها على سد حاجة المعوزين من أبناء الوطن أو حتى خارج الحدود المناطق المعرضة للجوع والمرض، سواء نتيجة الكوارث الطبيعية، أو الكوارث التي يصنعها الإنسان لأخيه الإنسان من حروب وتدمير، وقصف بصواريخ (كروز)، وقذف بطائرات بـ52، غير أن التكافل الاجتماعي المصري يتخذ أشكالا خاصة في شهر رمضان الكريم.
موائد الرحمن في كل مكان
قبل رمضان بعدة أيام يبدأ العمل في موائد الرحمن لتكون جاهزة لاستقبال ضيوفها من الصائمين مع أول أيام شهر رمضان الكريم؛ حيث تقام الخيام القماشية مستندة على أوتار من الخشب، ويتم تصميمها بحيث تسمح بالتهوية وتمنع المارة من رؤية روادها.
داخل هذه الخيمة تعلق لافتة كبيرة واضحة (مائدة الرحمن)، وإن كان هناك من يحرص على الإعلان عن صاحبها!، سواء كان فردًا أو مؤسسة أو مسجدًا.
والغالبية تكتفي بـ(مائدة الرحمن) فقط، وهذا يكفي بالتأكيد، وتختلف نوعية الطعام والشراب المقدم في (مائدة الرحمن) حسب قدرة القائم عليها، وكل حسب سعته. وإن كانت هناك (موائد الرحمن) مشهورة في المناطق الراقية والتي يقيمها بعض كبار الأثرياء، أو الفنانين، ولهذه الموائد رواد لا ينقطعون عنها كل عام ويأتون إليها من مناطق بعيدة؛ اشتياقًا لما سيجدونه فيها من أطعمة يقال بأنها تعادل الموجودة في الفنادق الكبيرة!
ويتردد بقصد أو بدون! إن هذه مائدة الفنانة فلانة، أو فلان، رجل الأعمال الشهير والقادم إلى ميدان السياسة بسرعة الصاروخ!.
ونذكر هنا بكل التقدير أن بعض الأثرياء من الإخوان المسيحيين يقيمون بعض هذه الموائد في تعبير جميل عن وحدة الشعب المصري، بل إن تكافلهم معنا نحن –المسلمين- قد يمتد إلى حد أنك لا تجد مسيحيًا يجهر بالشرب والأكل أو التدخين في نهار رمضان، مشاركة منه لمشاعر إخوته المسلمين.
وليت أصحاب تمثال "الحرية" يشهدون ذلك، فلوا فعلوا لعرفوا أن الحرية ليست تمثالا ولا لجانًا للتحقيق!
عمومًا نتركهم في المستنقع الأفغاني، ونكمل حديثنا عما هو أفضل، عن تكافلنا الاجتماعي الذي يبدو في أجمل صورة في رمضان.
مائدة حارة
في إحدى المناطق الشعبية جدًا وجدت مجموعة من الشباب قبل رمضان بأيام يقيمون خيمة صغيرة استخدموا فيها ستائر داكنة اللون وأعمدة من الحديد القديم، تصورت أنهم يقيمون كوخًا لأحد متضرري الزلزال، لكني فوجئت بأحدهم يجيبني: (هذه مائدة الرحمن، كل سنة وأنت طيب)، خجلت أن أقول له ما بداخلي، فمظهرهم المتواضع جدًا يرشحهم ليكونوا ضيوفا على أي موائد الرحمن كلها.
اتجهت لصاحب كشك حلويات وسألته في همس، فقال الحاج عرفة: هذه عادة ربنا لا يقطعها إن شاء الله، كل سنة يشترك شباب الشارع في إقامة هذه الخيمة، وهي تتسع لنحو عشرة أشخاص، وإذا كانوا وقوفا تستوعب أكثر، وكل بيت في الشارع يرسل ما يزيد عن حاجته، فتجد هذه الخيمة وقد امتلأت بالطعام والشراب والحلويات، حتى إن الطعام يتبقى منه الكثير بعد الإفطار.
ويضيف الحاج عرفة، بعد أن رأى دهشتي.. (مناطق شعبية كثيرة في مصر تجد فيها مثل هذا).
سألته عن كيفية وصول الرواد إليها وهي في حارة تقريبًا، فقال الحاج عرفة: الأطفال الصغار يقفون في الشارع الرئيسي قبل موعد الإفطار ويدلون المارة إلى طريق مائدة الرحمن، وتجد الأطفال يتجاذبون الصائم، فكل طفل يريد الذهاب به إلى مائدة الرحمن التي في حارته.
الحقيقة إنني كنت أود أن أذكر أمثلة أخرى لموائد الرحمن، لكنني وجدتها جميعًا تتضاءل أمام مائدة الرحمن في حارة الحاج عرفة، فهي تكفي.
فوانيس للحضانة
ومن مظاهر التكامل الاجتماعي أيضًا في رمضان، تلك الزيارات التي يقوم بها بعض الأثرياء إلى دور رعاية الأيتام ومدارس الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فيقدمون فوانيس رمضان الشهيرة في مصر بجانب الحلويات الرمضانية والياميش، ونفس هذا الدور تقوم به الجمعيات الخيرية، فتنفق من التبرعات التي تتلقاها لذات الغرض.
وكما أننا جميعًا نبحث عن المتعة والسعادة، فهناك من يبحثون عن كيفية صنع السعادة للآخرين.
في أحد المحلات هالني أن أجد سيدة تشتري عشرة فوانيس، وأدهشني أكثر ما قالته للبائع: (أريدهم كلهم حجم صغير مناسب لعمر 4 سنوات)! (تلكأت) فيما أشتريه حتى اشترت السيدة الفوانيس وانصرفت، فسألت البائع في فضول أبله (أولادها العشرة في سن 4 سنوات)؟ فقال: (هذه السيدة ليس لديها أطفال ـ إنها مدرسة في حضانة أطفال ـ وكل سنة تفعل نفس الشيء - إنها تهدي هذه الفوانيس لبعض أطفال الحضانة).
وبحسبة بسيطة تجد أن هذه السيدة قد أنفقت نسبة غير قليلة من مرتبها في شراء هذه الفوانيس.
ورددت لو أنني رأيتها وهي توزع هذه الفوانيس على الأطفال لرأيت السعادة تسير على قدمين.
ملاك وعيسى.. زينة رمضان
في أحد شوارع حي مصر الجديدة بالقاهرة، حيث تمتلئ المحلات بالفوانيس وياميش رمضان، وجدت مشادة بين بعض الشباب من أصحاب المحلات، والسبب؟..
يجيبني الحاج محمود صاحب مخبز: (ملاك وعيسي) غاضبين؛ لأننا لم نشأ أن نحملهما معنا تكاليف تزيين الشارع بالأنوار الملونة والفوانيس بمناسبة قدوم شهر رمضان الكريم.
سألته عن سبب استبعادهما، فقال هامسًا: والدهما الأستاذ (حليم) كان يشترك معنا كل سنة، لكنه مات بعد رمضان الماضي، ولم نشأ تحميلهما تكاليف الزينة؛ لأن محلهما لا يعمل جيدًا كما كان أيام والدهما.
وليس غريبًا على الشارع المصري أن تجد من يمر بسيارته قبل المغرب، فيوزع وجبات الإفطار الجاهزة على رجال المرور، رغم أن وزارة الداخلية تصرف لهم أيضًا وجبة.
صناعة السعادة
ولا تندهش إذا سمعت أصوات الأطباق والصواني تتكرر كثيرًا على سلم العمارة، قبل المغرب بدقائق، فمعظم السكان يرسلون للحارس وأسرته مما يأكلون، وأذكر أن عم إبراهيم حارس عقارنا كان يذهب بما يزيد عن حاجته هو وأولاده إلى حارس عقار آخر في نهاية الشارع، وعندما سألته قال: (العمارة التي يحرسها شوقي غير مسكونة، صاحبها بناها ولم يؤجرها أو يبعها حتى الآن، وشوقي أولاده كثير).
صانعو السعادة إذن، لا يشترط فيهم الغنى وكثرة المال، بل تكفي جدًا الرغبة الحقيقية في صنع السعادة للآخرين.
يؤسفني أن أذكر أن دوام الحال من المحال، فما إن ينتهِ شهر رمضان المبارك، حتى تقل هذه المظاهر الاجتماعية الأصيلة الجميلة، ربما لنزداد شوقا إليها حتى تأتينا في رمضان التالي، فنقول: (رمضان كريم.. والله أكرم).
التكافل الرمضاني على الطريقة المصرية
تتعدد مظاهر التكافل الاجتماعي التي يزخر بها المجتمع المصري، سواء ما يأخذ منها شكلا ظاهرًا، كإقامة ثلاجات المياه في الشوارع والميادين، أو ما هو مستتر - في صورة عينية أو مادية - كتبرعات للمساجد والجمعيات الخيرية للإنفاق منها على سد حاجة المعوزين من أبناء الوطن أو حتى خارج الحدود المناطق المعرضة للجوع والمرض، سواء نتيجة الكوارث الطبيعية، أو الكوارث التي يصنعها الإنسان لأخيه الإنسان من حروب وتدمير، وقصف بصواريخ (كروز)، وقذف بطائرات بـ52، غير أن التكافل الاجتماعي المصري يتخذ أشكالا خاصة في شهر رمضان الكريم.
موائد الرحمن في كل مكان
قبل رمضان بعدة أيام يبدأ العمل في موائد الرحمن لتكون جاهزة لاستقبال ضيوفها من الصائمين مع أول أيام شهر رمضان الكريم؛ حيث تقام الخيام القماشية مستندة على أوتار من الخشب، ويتم تصميمها بحيث تسمح بالتهوية وتمنع المارة من رؤية روادها.
داخل هذه الخيمة تعلق لافتة كبيرة واضحة (مائدة الرحمن)، وإن كان هناك من يحرص على الإعلان عن صاحبها!، سواء كان فردًا أو مؤسسة أو مسجدًا.
والغالبية تكتفي بـ(مائدة الرحمن) فقط، وهذا يكفي بالتأكيد، وتختلف نوعية الطعام والشراب المقدم في (مائدة الرحمن) حسب قدرة القائم عليها، وكل حسب سعته. وإن كانت هناك (موائد الرحمن) مشهورة في المناطق الراقية والتي يقيمها بعض كبار الأثرياء، أو الفنانين، ولهذه الموائد رواد لا ينقطعون عنها كل عام ويأتون إليها من مناطق بعيدة؛ اشتياقًا لما سيجدونه فيها من أطعمة يقال بأنها تعادل الموجودة في الفنادق الكبيرة!
ويتردد بقصد أو بدون! إن هذه مائدة الفنانة فلانة، أو فلان، رجل الأعمال الشهير والقادم إلى ميدان السياسة بسرعة الصاروخ!.
ونذكر هنا بكل التقدير أن بعض الأثرياء من الإخوان المسيحيين يقيمون بعض هذه الموائد في تعبير جميل عن وحدة الشعب المصري، بل إن تكافلهم معنا نحن –المسلمين- قد يمتد إلى حد أنك لا تجد مسيحيًا يجهر بالشرب والأكل أو التدخين في نهار رمضان، مشاركة منه لمشاعر إخوته المسلمين.
وليت أصحاب تمثال "الحرية" يشهدون ذلك، فلوا فعلوا لعرفوا أن الحرية ليست تمثالا ولا لجانًا للتحقيق!
عمومًا نتركهم في المستنقع الأفغاني، ونكمل حديثنا عما هو أفضل، عن تكافلنا الاجتماعي الذي يبدو في أجمل صورة في رمضان.
مائدة حارة
في إحدى المناطق الشعبية جدًا وجدت مجموعة من الشباب قبل رمضان بأيام يقيمون خيمة صغيرة استخدموا فيها ستائر داكنة اللون وأعمدة من الحديد القديم، تصورت أنهم يقيمون كوخًا لأحد متضرري الزلزال، لكني فوجئت بأحدهم يجيبني: (هذه مائدة الرحمن، كل سنة وأنت طيب)، خجلت أن أقول له ما بداخلي، فمظهرهم المتواضع جدًا يرشحهم ليكونوا ضيوفا على أي موائد الرحمن كلها.
اتجهت لصاحب كشك حلويات وسألته في همس، فقال الحاج عرفة: هذه عادة ربنا لا يقطعها إن شاء الله، كل سنة يشترك شباب الشارع في إقامة هذه الخيمة، وهي تتسع لنحو عشرة أشخاص، وإذا كانوا وقوفا تستوعب أكثر، وكل بيت في الشارع يرسل ما يزيد عن حاجته، فتجد هذه الخيمة وقد امتلأت بالطعام والشراب والحلويات، حتى إن الطعام يتبقى منه الكثير بعد الإفطار.
ويضيف الحاج عرفة، بعد أن رأى دهشتي.. (مناطق شعبية كثيرة في مصر تجد فيها مثل هذا).
سألته عن كيفية وصول الرواد إليها وهي في حارة تقريبًا، فقال الحاج عرفة: الأطفال الصغار يقفون في الشارع الرئيسي قبل موعد الإفطار ويدلون المارة إلى طريق مائدة الرحمن، وتجد الأطفال يتجاذبون الصائم، فكل طفل يريد الذهاب به إلى مائدة الرحمن التي في حارته.
الحقيقة إنني كنت أود أن أذكر أمثلة أخرى لموائد الرحمن، لكنني وجدتها جميعًا تتضاءل أمام مائدة الرحمن في حارة الحاج عرفة، فهي تكفي.
فوانيس للحضانة
ومن مظاهر التكامل الاجتماعي أيضًا في رمضان، تلك الزيارات التي يقوم بها بعض الأثرياء إلى دور رعاية الأيتام ومدارس الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فيقدمون فوانيس رمضان الشهيرة في مصر بجانب الحلويات الرمضانية والياميش، ونفس هذا الدور تقوم به الجمعيات الخيرية، فتنفق من التبرعات التي تتلقاها لذات الغرض.
وكما أننا جميعًا نبحث عن المتعة والسعادة، فهناك من يبحثون عن كيفية صنع السعادة للآخرين.
في أحد المحلات هالني أن أجد سيدة تشتري عشرة فوانيس، وأدهشني أكثر ما قالته للبائع: (أريدهم كلهم حجم صغير مناسب لعمر 4 سنوات)! (تلكأت) فيما أشتريه حتى اشترت السيدة الفوانيس وانصرفت، فسألت البائع في فضول أبله (أولادها العشرة في سن 4 سنوات)؟ فقال: (هذه السيدة ليس لديها أطفال ـ إنها مدرسة في حضانة أطفال ـ وكل سنة تفعل نفس الشيء - إنها تهدي هذه الفوانيس لبعض أطفال الحضانة).
وبحسبة بسيطة تجد أن هذه السيدة قد أنفقت نسبة غير قليلة من مرتبها في شراء هذه الفوانيس.
ورددت لو أنني رأيتها وهي توزع هذه الفوانيس على الأطفال لرأيت السعادة تسير على قدمين.
ملاك وعيسى.. زينة رمضان
في أحد شوارع حي مصر الجديدة بالقاهرة، حيث تمتلئ المحلات بالفوانيس وياميش رمضان، وجدت مشادة بين بعض الشباب من أصحاب المحلات، والسبب؟..
يجيبني الحاج محمود صاحب مخبز: (ملاك وعيسي) غاضبين؛ لأننا لم نشأ أن نحملهما معنا تكاليف تزيين الشارع بالأنوار الملونة والفوانيس بمناسبة قدوم شهر رمضان الكريم.
سألته عن سبب استبعادهما، فقال هامسًا: والدهما الأستاذ (حليم) كان يشترك معنا كل سنة، لكنه مات بعد رمضان الماضي، ولم نشأ تحميلهما تكاليف الزينة؛ لأن محلهما لا يعمل جيدًا كما كان أيام والدهما.
وليس غريبًا على الشارع المصري أن تجد من يمر بسيارته قبل المغرب، فيوزع وجبات الإفطار الجاهزة على رجال المرور، رغم أن وزارة الداخلية تصرف لهم أيضًا وجبة.
صناعة السعادة
ولا تندهش إذا سمعت أصوات الأطباق والصواني تتكرر كثيرًا على سلم العمارة، قبل المغرب بدقائق، فمعظم السكان يرسلون للحارس وأسرته مما يأكلون، وأذكر أن عم إبراهيم حارس عقارنا كان يذهب بما يزيد عن حاجته هو وأولاده إلى حارس عقار آخر في نهاية الشارع، وعندما سألته قال: (العمارة التي يحرسها شوقي غير مسكونة، صاحبها بناها ولم يؤجرها أو يبعها حتى الآن، وشوقي أولاده كثير).
صانعو السعادة إذن، لا يشترط فيهم الغنى وكثرة المال، بل تكفي جدًا الرغبة الحقيقية في صنع السعادة للآخرين.
يؤسفني أن أذكر أن دوام الحال من المحال، فما إن ينتهِ شهر رمضان المبارك، حتى تقل هذه المظاهر الاجتماعية الأصيلة الجميلة، ربما لنزداد شوقا إليها حتى تأتينا في رمضان التالي، فنقول: (رمضان كريم.. والله أكرم).